في تصنيفات الرجال الأكثر تأثيرا في العالم يحتل بيل غيتس دائما مواقع متصدرة على المستويات الإقتصادية والإجتماعية الإنسانية والتكنولوجية، ومع انه جاء من عائلة من الطبقة المتوسطة لأب محام وأم تعمل في مجال البنوك، ولكن بالجد والإجتهاد والمثابرة وتوفر الفرص في أمريكا تمكن في سنين قليلة أن يصبح أغنى رجال العالم والشريك الأكبر ورئيس مجلس إدارة شركة مايكروسوفت للكمبيوتر والبرمجيات.
وفي محاضرة لبعض تلاميذ المدارس الثانوية نقل لهم غيتس خلاصة خبرته وكيف صار الى ما صار إليه، فقال إن العالم يتوقع منكم إنجاز شيء قبل الإعتراف بكم، وإن قلي البرغر وغسل الصحون ليس عيبا، وما ترونه كحط لكرامتكم رآه أجدادنا كفرصة واجبة الإقتناص، وإذا أخطأتم فهذه ليست مشكلة آبائكم لإنهم لم يحسنوا تربيتكم.
إنها مشكلتكم وعليكم مواجهة أخطائكم بشجاعة ومسؤولية، وقبل أن تنقذوا الدنيا وتحدوا من إنتشار الأسلحة النووية والإحتباس الحراري، إبدؤا بتنفيذ غرفكم وترتيب خزائنكم، لن يساعدكم أحد على إيجاد أنفسكم ولا تحقيق أحلامكم ما لم تتخذوا الخطوة الأولى بأنفسكم، والحياة ليست برومانسية أفلام التلفاز، في واقع الحياة لا يمضي الناس وقتهم في المقاهي بل يذهبون للوظيفة والكد.
مهما إختلفنا أو إتفقنا على مبادئ العالم الرأسمالي الا إننا لن نختلف على أن دول هذا العالم تحترم قيمة العمل الإنساني وتعتبه المؤهل الأول والأهم للمنافسة والمنصب، فها هو محام أسود في بلد كان يستعبد السود وخاض حروبا دامية للابقاء على عبوديتهم وساوى بينهم وبين الكلاب وكان يعتبر قتلهم وقصاصهم كما كانت تفعل جماعات تعرف بالكلوكلوكس كلان تقربا للرب، يصبح رئيسا لأمريكا ويكون شعار حملته نعم نستطيع -Yes We Can- وكذلك النساء في ألمانيا التي كانت في عهدها النازي تعلي من السلطة والتسلط الذكوري وصلن أعلى الهرم السياسي والتنفيذي.
أما الدول العربية فإستباحة وإنتهاك العمل الإنساني تسودها على مختلف المستويات ومنها تولي المناصب حيث يغلب وضع الرجل غير المناسب في المكان المناسب وحيث لا يكون للمجتهد أي نصيب ولا مكان للتفوق الأكاديمي ولا التميز الشخصي أو الإنجاز الوظيفي، ويكون النسب والصلات ورأس المال والولاء المطلق من أسباب التفضيل.
والعالم العربي يعاني من ردة صارخة ومعلنة تجاه الإرث والتوجيهات الدينية التي تؤكد على رفعة المرء بإيمانه ومؤهلاته في ثنائية متلازمة، فليس الإيمان وحده الحكم في تولي المسؤولية، وهذا ما أفهمه الرسول صلى الله عليه وسلم لابي ذر عندما سأله الولاية وكان من خيرة الصحابة المتقدمين، فقال له «إنك لضعيف وإنها لأمانة وإنها يوم القيامة خزي وندامة الا من قام بحقها وأدى الذي عليه فيها».
ولقد تقدم في صحبة الرسول وخدمة المسلمين من كانوا عبيدا وموالي مثل بلال وعمار وسلمان، وقد بلغ من منزلة سلمان الفارسي عند الصحابة أن أراد المهاجرون والأنصار نسبته إليهم حتى نسبه الرسول عليه السلام الى آل البيت الذين تصلهم صلاة ودعاء أمة محمد الى يوم الدين، وخلد العرب تفوقا لأفراد في مكارم الأخلاق من غير علية القوم فقال الشاعر يمدح أحد الخلفاء بأخلاقهم:
إقدام عمرو في سماحة حاتم *** في حلم أحنف في ذكاء إياس
وسلك معن بن زائدة دروب المعالي وساد قومه ولم ينزعج عندما ذكره الشاعر بأصله وكيف بدأ حياته فقال له:
أتذكر إذ لحافك جلد شاة *** وإذ نعلاك من جلد البعير
فرد عليه معن: أذكر ولا أنسى.
فقال الشاعر:
فسبحان الذي أعطاك ملكا *** وعلمك الجلوس على السرير
فرد معن الفضل لله قائلا: سبحانه يعز من يشاء ويذل من يشاء.
ولم ينتكس الحكم الاسلامي الا عندما أصبح جبرا لا إختيارا وتفضيلا وشورى، ومع ذلك تشهد صفحات التاريخ بإناس فضلوا العام على الخاص والأمة على العائلة والنسب، فرفض سيلمان بن عبد الملك عند موته تولية الخلافة لابنه وقال: لأعقدن عقدا لا يكون للشيطان فيه نصيب، فعهد اليها لعمر بن عبد العزيز.
ولقد أسقط الإسلام التقدم بالأنساب فيوم القيامة والحساب يحكم على المرء بعمله لا بنسبه اذ قال تعالى {فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون}.
وروى زيد بن أسلم عن أبيه قال: قلت لجعفر بن أبي طالب وكان والي المدينة: إحذر أن يأتي غدا رجل ليس له في الاسلام نسب ولا أب ولا جد فيكون أولى برسول الله صلى الله عليه وسلم منك كما كانت إمرأة فرعون أولى بموسى وكما كانت إمرأة نوح وإمرأة لوط أولى بفرعون، ومن أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه، ومن أسرع به عمله لم يبطء به نسبه.
وأمسك الرسول بيد فاطمة وقال لها «يا فاطمة يا بنت محمد لا أغني عنك من الله شيئا»، ولم يمنع شرف الأصل من إقامة الحد على المرأة المخزومية عند إقترافها للذنب.
في ظل معطيات العصر الحديث الذي لا يعترف بمقومات الإنسان، ندمت أشد الندم على أن أبي لم يورثني مهنته كطبيب، وبالتالي لن أرث موقعه السابق في رئاسة نقابة الأطباء، وذهب حلمي بالمنصب أدراج الرياح!! فهل فات الوقت لأدرس الطب أو أحصل شهادة مزورة أو أي شيء يمكنني من إستعادة إرث أبي غصبا وإحتيالا؟؟
في مثالية من الزمان قال الشاعر:
كن ابن من شئت واكتسب أدبا *** يغنيك محموده عن النسب
إن الفتى من قال ها أنا ذا *** ليس الفتى من قال كان أبي
وسنبقى نلح ونذكر بأيام المثالية وسالف عهد المجد لعل قطرات الماء تفتّ الصخر ويدور الزمان دورته وتتداول الأيام ويمكث في الأرض ما ينفع ومن ينفع الناس.
الكاتب: د. ديمة طارق طهبوب.
المصدر: موقع المسلم.